الغيبة ... تأكل الحسنات
1- تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من آفات اللسان عموماً:
عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) .
قال ابن حجر: الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية . . . فالمعنى: من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه.
وقال الداودي: المراد بما بين اللحيين: الفم ، قال : فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل.
قال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه ، فمن وقي شرهما وقي أعظم الشر .
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق)) . وفي رواية له: ((يهوي بها في نار جهنم)) .
قال ابن حجر: ((بالكلمة)): أي الكلام. . . . ((ما يتبين فيها)) أي لا يتطلب معناها، أي لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت فيها . . .وقال بعض الشراح: المعنى أنه لا يبينها بعبارة واضحة.
وفي الكلمة التي يزل بها العبد قال ابن عبد البر : هي التي يقولها عند السلطان الجائر ، وزاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سبباً لهلاكه ، ونقل عن ابن وهب أنها التلفظ بالسوء والفحش.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث ، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو مجون أو استخفاف بحق النبوة.
قال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان ، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق ، فإن ظهرت مصلحة تكلم، وإلا أمسك .
وفي حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ، قلت: بلى يا نبي الله ، فأخذ بلسانه ، قال : كف عليك هذا ، فقلت: يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) .
وفي حديث الترمذي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: ((الفم والفرج)) .
قال المباركفوري: ((ملاك ذلك كله)) : الملاك ما به إحكام الشيء وتقويته . . أي ما تقوم به تلك العبادات جميعها.
((كف عليك هذا)) : لا تكلم بما لا يعنيك ، فإن من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه.
((ثكلتك)) هو دعاء عليه بالموت على ظاهره ، ولا يراد وقوعه ، بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة وتعجيب وتعظيم للأمر.
((يكب الناس)) أي يلقيهم ويسقطهم ويصرعهم.
(على وجوههم أو على مناخرهم) شك من الراوي.
((إلا حصائد ألسنتهم)) لا يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر والقذف والشتم والغيبة والنميمة والبهتان .
قال ابن رجب: هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله ، وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا ، فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) .
قال ابن القيم: قولها: ((إنما نحن بك)) أي نجاتنا بك ، وهلاكنا بك ، ولهذا قالت ((فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا)) .
قال الغزالي مبينا معنى الحديث: إن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان ، فاللسان أشد الأعضاء جماحاً وطغياناً ، وأكثرها فساداً وعدواناً .
قال ابن حبان: اللسان إذا صلح تبين ذلك على الأعضاء ، وإذا فسد كذلك .
2 ـ الغيبة في اللغة والاصطلاح، وصورها:
الغيبة لغة: من الغَيْب "وهو كل ما غاب عنك" , وسميت الغيبة بذلك لغياب المذكور حين ذكره الآخرون.
قال ابن منظور: "الغيبة من الاغتياب... أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء" .
والغيبة في الاصطلاح: قد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) .
ولم يرد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تقييده بغَيبة المذكور, لكنه مستفاد من المعني اللغوي للكلمة.
قال النووي: "الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره" .
صور الغيبة وما يدخل فيها :
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الغيبة إنما تقع فيما يكرهه الإنسان ويؤذيه فقال: ((بما يكره)).
قال النووي في الأذكار مفصلاً ذلك: ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز.
ومن الصور التي تعد أيضاً في الغيبة قال النووي: ومنه قولهم عند ذكره : الله يعافينا ، الله يتوب علينا ، نسأل الله السلامة ونحو ذلك ، فكل ذلك من الغيبة .
ومن صور الغيبة ما قد يخرج من المرء على صورة التعجب أو الاغتمام أو إنكار المنكر قال ابن تيمية: ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت... ومنهم من يخرج [النية في قالب] الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له وما ثم له.. .
الفرق بين الغيبة والبهتان والإفك:
بّين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان, ففي الحديث "قيل: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) , وفي حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم, ولا يَرحل حتى يُرحل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغتبتموه)) فقالوا: يا رسول الله: إنما حدثنا بما فيه قال: ((حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه)) .
والبهتان إنما يكون في الباطل كما قال الله : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب:58].
والبهت قد يكون غيبة، وقد يكون حضوراً ، قال النووي : "وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجه" .
قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله : الغيبة والإفك والبهتان.
فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه ، وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه ، وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه.
3- حكم الغيبة، وأدلة تحريمها في القرآن والسنة، وأقوال السلف في ذلك:
الغيبة حرام بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك النووي .
واختلف العلماء في عدها من الكبائر أو الصغائر ، وقد نقل القرطبي الاتفاق على كونها من الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة ولم يعتد رحمه الله بخلاف بعض أهل العلم ممن قال بأنها من الصغائر .
والقول بأنها من الكبائر هو قول جماهير أهل العلم صاحب كتاب العدة والخلاف في ذلك منقول عن الغزالي .
وقد فصل ابن حجر محاولاً الجمع بين الرأيين فقال: فمن اغتاب ولياً لله أو عالماً ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلاً.
وقد قالوا: ضابطها ذكر الشخص بما يكره ، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه ، وقد يشتد تأذيه بذلك .
أدلة تحريم الغيبة من القرآن الكريم:
أ- قال تعالى: { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات:12].
قال ابن عباس: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة.
قال القاضي أبو يعلى عن تمثيل الغيبة بأكل الميت: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة ، لأن أكل لحم المسلم محظور ، ولأن النفوس تعافه من طريق الطبع ، فينبغي أن تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله ((فكرهتموه)) قال الفراء: أي فقد بغِّض إليكم . وقال الزجاج: والمعنى كما تكرهون أكل لحم ميتاً ، فكذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائباً .
ب- قال تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [الحجرات:11].
قال ابن عباس في تفسير اللمز: لا يطعن بعضكم على بعض ، ونقل مثله عن مجاهد وسعيد وقتادة ومقاتل بن حيان .
قال ابن كثير {لا تلمزوا أنفسكم}: أي لا تلمزوا الناس ، والهماز واللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال الله {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة:1].
فالهمز بالفعل، واللمز بالقول .
قال الشنقيطي: الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقاراً أو ازدراءً، واللمز باللسان ، وتدخل فيه الغيبة .
ج- {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة:1].